عادي
07-09-2001, 10:35 AM
(( - أجل .. أخاف من المستقبل لأنه يتراءى أمامي غامضاً مجهولا .. كهذا البحر البعيد المترامي أمامنا في غير حدود .. دون أن نبصر ما وراءه .. ولا نعرف ما في أغواره .. إنه قد يحمل الحياة كما يحمل الموت .. وأخشى الأيام .. لأنها أسرع في السراء من القطاة وأبطأ في الضراء من السلحفاة ؟؟ إذا ما حملت بالسعادة تسربت بين أيدينا تسرب الماء من بين الأصابع .. وإذا حملت بالشقاء أطبقت على أنفاسنا كالحمل الثقيل .. وأخشى من الدنيا لأنها عندما تهب بحمق تأخذ بجنون .. وعندما تمنح بسفاهة .. تمنع بلؤم وخسة . ))
دموعها تنهمر بغزارة على خديها وهي تقرأ هذا المقطع من قصة " فديتكِ يا ليلى " .. تشعر الآن بأن يوسف السباعي كان يصفها هي .. لقد مس بكلماته الجرح الذي تخفيه عن أعين البشر ..
تضع كفاً في أخرى وتستند بقمة رأسها على كفيها .. ودموعها المحبوسة داخل نفسها لسنواتٍ طوال تنهمر بسرعة الصوت .. تفكر في الحياة التي عاشتها .. في بداية ألمها وشقاءها .. كان يوم وفاة والدها .. تذكر كيف جنت لمصرعه .. كيف انحنى ظهرها وهي تسير وسط النساء المعزيات .. تذكر جملة أطلقتها من حرقة قلبها آنذاك :
- والله الأب يا ناس خيمه .. يظلل على بناته وحريمه.
يـــاه .. كم تتوق الآن لأن ترتمي في أحضان خيمته الآن .. !!!
تطرق والدتها الباب .. فلا ترد .. تعاود والدتها الطرق .. بينما هي منغمسة في دموعها .. تدخل والدتها والقلق يعلوها : " فادي " ما بك .
تمسح دموعها وتستدير لمواجهة والدتها وهي ترسم ابتسامةً مصطعنة على شفتيها :
- كنت منهمك في قراءة القصة لذا لم أسمع الطرق .. قالتها وهي تشير إلى القصة.
- كاذب !
صرخة من فم والدتها انطلقت .
أرادت أن تتكلم بمزيدِ من الأكاذيب لتطمئن قلب والدتها .. لكن للصبر حدود .
أطلقت العنان لدموعها لتعبر عن ألمها .. فأقتربت منها والدتها لتضمها إلى صدرها:
- يا حبيبتي يا فدوى .
يـــــــــــاه .. منذ زمنٍ لم أسمعها منكِ .. منذ وفاة البيت الذي يظلني ويحميني .
- ماذا تقصدين ؟؟
تابعت حديثها وهي تبتعد عن صدر والدتها وتدور في الغرفة ذهاباً وإياباً :
- أبي كان المأوى لأحلامي وآمالي الطفولية .. والحارس الخاص لها .. كان يعلمني كيف أهدهدها في المهد كي تنمو مع نموي .. كان يحميني من أشعة الآلام .. ويمنحني نوراً أرى به الحياة .. كان يحميني من عواصف الأيام وغمها وهمها .. كنت أجد في ابتسامته السلوى .. وفي هدوئه وطمأنينته الراحة ... كان .. كان يا والدتي كان ..
( توقفت عن الدوران وأخذت نفساً عميقا .. )
بعد وفاته وجدت أننا - أنا وأنتي - نقف في معترك الحياة وحدنا .. ليس لي أخ أعتمد عليه ، ولا سندٌ أطمئن إليه .. أذكر كلماتكِ حينها حرفاً حرفا .. فقد حفرت في ذاكرتي أبد الدهر :
(( - بنيتي .. لا أمل يدفعني الآن نحو الحياة غيرك .. ليس لي سواكِ ..
حبيبتي .. من الآن فصاعداً ادخري دموعك لقسوة الحياة ومرارة الأيام .. ستتجرعين كأس الألم كل يوم .. .. جرعات تزيد من استشعارك لمرارة الألم .. سترين الأطفال يغدون حولكِ هذه تردد أبي قال .. وأبي فعل .. وتلك تهتف أبي أحضر لي وأبي علمني .. وأنتِ - يا حسرتي - لا أب لك .. ولا أخ يعوضك - قالتها وهي تضمها إلى صدرها فتعصرها عصرا - ولا عائلة لي هنا .. ولا أستطيع الاعتماد على عائلة والدك للمشاكل بينهم وبين أبيكِ .. ليس لكِ إلا نفسكٍ تعتمدين عليها .. أعرف أنها مسئولية كبرى على ابنة الأثنى عشر عاماً لكن هكذا كانت مشيئة القدر .. بنية .. أنتِ درعي في الحياة . ))
آهــ .. ثم آهــ .. غصةٌ إثر غصة .. كانت كلماتكِ كالسياط المشتعلة تلهب بدني وقلبي .. فقررت حينها أن أحرق آمالي وأحلامي وأذرها للريح تأخذ ما بقي من رمادها .. كان لا بد أن أكون صبياً لأستطيع أن أعيش هذا ما علمتنيه.. أن أنسى أنني أنثى هذا ما أردته أنتِ لا أنا .. وأكملتِ المهمة بتشجيعي وغرس آمالكِ في نفسي .. أصبحت أهفو لحركات الأولاد أكثر من الفتيات .. أكره لبس الفساتين التي تظهرني كفتاة .. وأفضل البنطلونات والأقمصة كالأولاد .. تعلمت فنون القتال من ركلٍ وضرب وشتم .. لأضرب كل من يلقبني باسمي .. وأطالبها باسم " فادي " حتى أصبح الاسم الشائع لي .. أحببت كرة القدم .. وكل الألعاب الصبيانية .. و صوتي - هو الآخر - أصبح ضخماً قوياً .. وحتى في مراهقتي .. لم تمنحيني الفساتين وأدوات التجميل .. ولا الأحذية ذات الكعب العالي .. ولا حتى الأفلام العاطفية .. كل ما أعطيتنيه آنذاك هي أفلام القتال والضرب .. وأصبحت أتابع بشغفٍ مباريات المصارعة والملاكمة ..
ستة عشر عاماً مرت من حياتي .. وأنا أحيا كما تودين .
أحيا كشابٍ لا كأنثى .. حتى اختفت تاء التأنيث من حياتي نهائياً .. الكل يناديني " فادي " حتى زملائي في الجريدة.. مع ذلك لم أزدد سوى حباً للشخصية التي غرستها داخلي .. لظني أنها الشخصية التي تناسبني لأعيش .
ستة عشر عاماً من عمري عشت تائهة فيها .. ستة عشر عاماً وأنا أخدع نفسي .. ستة عشر عاماً وأنا في غربة عن نفسي .. ستة عشر عاماً لم يتحرك داخلي فيها سوى مشاعر الشباب وآمالك .. انظري إلي .. شاهديني ( قالتها وهي تدور حول نفسها ) ها أنا أرتدي البنطال الجينز .. وقميصٌ من الجلد الأسود .. وقبعة تخفي أسفلها شعري الطويل .. الشاهد الوحيد على أنوثتي .. شاهدي دولابي .. ( قفزت ناحية الدولاب وفتحته على مصراعيه ) ليس فيه فستان واحد !!!
( استندت على الباب المفتوح بيديها اللتان وضعتهما خلفها وتطلعت نحو الأعلى وهي تردف )
كل هذا وأنا راضية برضاكِ .. سعيدة لأجلك .. لم أدرك طوال هذه المدة أني أحطم نفسي .. لم أشعر أني ميته وأنا على قيد الحياة حتى رأيته .. "حسن " زميلي في الجريدة .. المصور الذي حدثتكِ عنه .. لأولِ مرةٍ أشعر بارتباك أمام رجل .. لأولِ مرة أخجل من قول مساء الخير يا وجوه الخير على زملائي في الجريدة .. لأول مرة لا أعرف كيف أتحدث بحرية وبساطة .. لأول مرة أنسلخ من عالم الرجال فلا أقدر على الحديث مثلهم .. لمّا عرفته عن قرب أحسست بما لم أعرفه من قبل .. أصبحت اسمع دقات قلبي كلما أقترب مني .. كلما وقعت عينيّ عليه .. أشعر بنفسي كالفجر الوليد كلما فكرت فيه .. أبحث بين صفحات الجريدة عن كل صورةٍ ألتقطها .. وأنتشي كلما رأيت اسمه يلمع في سماء الصحافة .. تخيلي .. تخيلي أني أحفظ كل كلمةٍ يقولها كأنشودةٍ عذبه .. تنتابني طاقة هائلة في عمل التحقيقات الصحفية كلما فكرت فيه .. تمنيت لو يكلفني رئيس التحرير كل يوم بجولةٍ أقوم فيها بعملٍ صحفي يجمعنا معاً . لم أطلب شيئاً أكثر من هذا الإحساس .. لم أطمح في أكثر من هذا .. لكن اليوم .. اليوم دخل الغرفة وهو يلوح بأربعٍ من البطاقات في يده :
- هيه .. شباب .. ابشروا لقد استطعت الحصول على أربع بطاقاتٍ لمشاهدة المباراة النهائية لدوري كرة القدم .
رفعت رأسي لأنظر .. كان " سعيد " وَ " عمار " قد قفزوا إليه والتقطوا بطاقة لكلٍِ منهما .. وهما يرقصان طربا .. أحزري يا ماما ماذا قال بعدها .. التفت إليّ بكل وقاحة وقال :
- وأنت أخونا " فادي " ألا تأخذ بطاقتك .
قالها وهو يمد علي البطاقة ...
لم أشعر في لحظةٍ من حياتي بخيبة الأمل كما شعرت بها اليوم .. لم أتمنى أن تشق الأرض وتبتلعني بقدر ما تمنيت اليوم .. لم استطع أن أفعل شيئاً سوى أن أغادر الغرفة مسرعة .. مقاومةً رغبتي في البكاء ..
حينها .. وحينها فقط أدركت أنه لا يرى فيّ سوى الشاب الذي صنعته تصرفاتي وحركاتي وآمالك .. أنه يراني من هذه الناحية فقط .. أنتِ السبب .. أنتِ السبب .
دموعٌ غزيرة في عيون الأم أيضا .. وهي تتراجع إلى الخلف كأنما تهرب من شبحٍ ما :
- لا .. لا .. لا أصدق أني فعلت كل هذا بكِ .. لا أصدق أني حطمتكِ هكذا .. أنا .. أنا أردت حمايتكِ فعذبتك ؟؟
يا إلهي !!!! حبيبتي .. كنت أود أن أحميكِ ..
صرخت : مم تحميني هاه ؟؟؟ وكيف تكون حمايتي أجيبي .. أتكون بتحولي إلى هجين؟؟
شاهدي نتيجة ما أردتِ نصف فتاة ونصف فتى .. لا هذا جنسي .. ولا هذا .. خليطٌ غريب منهما .. بل مسخ.. أأردتِ الحصول على مسخ؟؟ مسخ ؟؟
صرخت الأم وهي تلوح بذراعيها بذعرٍ شديد :
- كلا .. كلا .. لقد نسيت أنكِ فتاة من هول الصدمة في وفاة والدكِ وأنا غريبة عن هذا الوطن .. أهلي في بلدٍ وآنا في آخر .. وأهل والدكِ لا يعترفون بنا للخلاف بينهم وبين والدكِ على قضية زواجه مني .. ووجدت نفسي أقف وسط البحر في قاربٍ دون مجداف .. لم أجد سواكِ فكنتِ ضحيتي .. عاملتك كفتى .. ربيتك كفتى .. هكذا أردت أن تكوني .. أردت بذلك ألا تضعفي في وجه الحياة .. أنت تكوني صادمة .. قوية .. راسخة .. أنا .. أنا .
وأسدلت ذراعيها في حركة استسلامية .. وعينيها الدامعتان تراقبان دموع ابنتها ولهاثها .. تراقب ارتفاع صدرها ونزوله من فرط الغضب والثورة .. فتحت ذراعيها .. فركضت " فدوى " .. لتلقي بنفسها وسط أحضان والدتها بقوةٍ تمنت فيها أن تذوب في أحضانها .. نظرت الأم إلى شعر أبنتها .. وأزالت القبعة التي ترتديها فتهاوى شعرها الفاحم في حركاتٍ متموجة .. زادت من روعته .. أبعدت الأم ابنتها .. ونظرت إلى عينيها وقالت :
- " فدوى " .. أعتذر .
دموعها تنهمر بغزارة على خديها وهي تقرأ هذا المقطع من قصة " فديتكِ يا ليلى " .. تشعر الآن بأن يوسف السباعي كان يصفها هي .. لقد مس بكلماته الجرح الذي تخفيه عن أعين البشر ..
تضع كفاً في أخرى وتستند بقمة رأسها على كفيها .. ودموعها المحبوسة داخل نفسها لسنواتٍ طوال تنهمر بسرعة الصوت .. تفكر في الحياة التي عاشتها .. في بداية ألمها وشقاءها .. كان يوم وفاة والدها .. تذكر كيف جنت لمصرعه .. كيف انحنى ظهرها وهي تسير وسط النساء المعزيات .. تذكر جملة أطلقتها من حرقة قلبها آنذاك :
- والله الأب يا ناس خيمه .. يظلل على بناته وحريمه.
يـــاه .. كم تتوق الآن لأن ترتمي في أحضان خيمته الآن .. !!!
تطرق والدتها الباب .. فلا ترد .. تعاود والدتها الطرق .. بينما هي منغمسة في دموعها .. تدخل والدتها والقلق يعلوها : " فادي " ما بك .
تمسح دموعها وتستدير لمواجهة والدتها وهي ترسم ابتسامةً مصطعنة على شفتيها :
- كنت منهمك في قراءة القصة لذا لم أسمع الطرق .. قالتها وهي تشير إلى القصة.
- كاذب !
صرخة من فم والدتها انطلقت .
أرادت أن تتكلم بمزيدِ من الأكاذيب لتطمئن قلب والدتها .. لكن للصبر حدود .
أطلقت العنان لدموعها لتعبر عن ألمها .. فأقتربت منها والدتها لتضمها إلى صدرها:
- يا حبيبتي يا فدوى .
يـــــــــــاه .. منذ زمنٍ لم أسمعها منكِ .. منذ وفاة البيت الذي يظلني ويحميني .
- ماذا تقصدين ؟؟
تابعت حديثها وهي تبتعد عن صدر والدتها وتدور في الغرفة ذهاباً وإياباً :
- أبي كان المأوى لأحلامي وآمالي الطفولية .. والحارس الخاص لها .. كان يعلمني كيف أهدهدها في المهد كي تنمو مع نموي .. كان يحميني من أشعة الآلام .. ويمنحني نوراً أرى به الحياة .. كان يحميني من عواصف الأيام وغمها وهمها .. كنت أجد في ابتسامته السلوى .. وفي هدوئه وطمأنينته الراحة ... كان .. كان يا والدتي كان ..
( توقفت عن الدوران وأخذت نفساً عميقا .. )
بعد وفاته وجدت أننا - أنا وأنتي - نقف في معترك الحياة وحدنا .. ليس لي أخ أعتمد عليه ، ولا سندٌ أطمئن إليه .. أذكر كلماتكِ حينها حرفاً حرفا .. فقد حفرت في ذاكرتي أبد الدهر :
(( - بنيتي .. لا أمل يدفعني الآن نحو الحياة غيرك .. ليس لي سواكِ ..
حبيبتي .. من الآن فصاعداً ادخري دموعك لقسوة الحياة ومرارة الأيام .. ستتجرعين كأس الألم كل يوم .. .. جرعات تزيد من استشعارك لمرارة الألم .. سترين الأطفال يغدون حولكِ هذه تردد أبي قال .. وأبي فعل .. وتلك تهتف أبي أحضر لي وأبي علمني .. وأنتِ - يا حسرتي - لا أب لك .. ولا أخ يعوضك - قالتها وهي تضمها إلى صدرها فتعصرها عصرا - ولا عائلة لي هنا .. ولا أستطيع الاعتماد على عائلة والدك للمشاكل بينهم وبين أبيكِ .. ليس لكِ إلا نفسكٍ تعتمدين عليها .. أعرف أنها مسئولية كبرى على ابنة الأثنى عشر عاماً لكن هكذا كانت مشيئة القدر .. بنية .. أنتِ درعي في الحياة . ))
آهــ .. ثم آهــ .. غصةٌ إثر غصة .. كانت كلماتكِ كالسياط المشتعلة تلهب بدني وقلبي .. فقررت حينها أن أحرق آمالي وأحلامي وأذرها للريح تأخذ ما بقي من رمادها .. كان لا بد أن أكون صبياً لأستطيع أن أعيش هذا ما علمتنيه.. أن أنسى أنني أنثى هذا ما أردته أنتِ لا أنا .. وأكملتِ المهمة بتشجيعي وغرس آمالكِ في نفسي .. أصبحت أهفو لحركات الأولاد أكثر من الفتيات .. أكره لبس الفساتين التي تظهرني كفتاة .. وأفضل البنطلونات والأقمصة كالأولاد .. تعلمت فنون القتال من ركلٍ وضرب وشتم .. لأضرب كل من يلقبني باسمي .. وأطالبها باسم " فادي " حتى أصبح الاسم الشائع لي .. أحببت كرة القدم .. وكل الألعاب الصبيانية .. و صوتي - هو الآخر - أصبح ضخماً قوياً .. وحتى في مراهقتي .. لم تمنحيني الفساتين وأدوات التجميل .. ولا الأحذية ذات الكعب العالي .. ولا حتى الأفلام العاطفية .. كل ما أعطيتنيه آنذاك هي أفلام القتال والضرب .. وأصبحت أتابع بشغفٍ مباريات المصارعة والملاكمة ..
ستة عشر عاماً مرت من حياتي .. وأنا أحيا كما تودين .
أحيا كشابٍ لا كأنثى .. حتى اختفت تاء التأنيث من حياتي نهائياً .. الكل يناديني " فادي " حتى زملائي في الجريدة.. مع ذلك لم أزدد سوى حباً للشخصية التي غرستها داخلي .. لظني أنها الشخصية التي تناسبني لأعيش .
ستة عشر عاماً من عمري عشت تائهة فيها .. ستة عشر عاماً وأنا أخدع نفسي .. ستة عشر عاماً وأنا في غربة عن نفسي .. ستة عشر عاماً لم يتحرك داخلي فيها سوى مشاعر الشباب وآمالك .. انظري إلي .. شاهديني ( قالتها وهي تدور حول نفسها ) ها أنا أرتدي البنطال الجينز .. وقميصٌ من الجلد الأسود .. وقبعة تخفي أسفلها شعري الطويل .. الشاهد الوحيد على أنوثتي .. شاهدي دولابي .. ( قفزت ناحية الدولاب وفتحته على مصراعيه ) ليس فيه فستان واحد !!!
( استندت على الباب المفتوح بيديها اللتان وضعتهما خلفها وتطلعت نحو الأعلى وهي تردف )
كل هذا وأنا راضية برضاكِ .. سعيدة لأجلك .. لم أدرك طوال هذه المدة أني أحطم نفسي .. لم أشعر أني ميته وأنا على قيد الحياة حتى رأيته .. "حسن " زميلي في الجريدة .. المصور الذي حدثتكِ عنه .. لأولِ مرةٍ أشعر بارتباك أمام رجل .. لأولِ مرة أخجل من قول مساء الخير يا وجوه الخير على زملائي في الجريدة .. لأول مرة لا أعرف كيف أتحدث بحرية وبساطة .. لأول مرة أنسلخ من عالم الرجال فلا أقدر على الحديث مثلهم .. لمّا عرفته عن قرب أحسست بما لم أعرفه من قبل .. أصبحت اسمع دقات قلبي كلما أقترب مني .. كلما وقعت عينيّ عليه .. أشعر بنفسي كالفجر الوليد كلما فكرت فيه .. أبحث بين صفحات الجريدة عن كل صورةٍ ألتقطها .. وأنتشي كلما رأيت اسمه يلمع في سماء الصحافة .. تخيلي .. تخيلي أني أحفظ كل كلمةٍ يقولها كأنشودةٍ عذبه .. تنتابني طاقة هائلة في عمل التحقيقات الصحفية كلما فكرت فيه .. تمنيت لو يكلفني رئيس التحرير كل يوم بجولةٍ أقوم فيها بعملٍ صحفي يجمعنا معاً . لم أطلب شيئاً أكثر من هذا الإحساس .. لم أطمح في أكثر من هذا .. لكن اليوم .. اليوم دخل الغرفة وهو يلوح بأربعٍ من البطاقات في يده :
- هيه .. شباب .. ابشروا لقد استطعت الحصول على أربع بطاقاتٍ لمشاهدة المباراة النهائية لدوري كرة القدم .
رفعت رأسي لأنظر .. كان " سعيد " وَ " عمار " قد قفزوا إليه والتقطوا بطاقة لكلٍِ منهما .. وهما يرقصان طربا .. أحزري يا ماما ماذا قال بعدها .. التفت إليّ بكل وقاحة وقال :
- وأنت أخونا " فادي " ألا تأخذ بطاقتك .
قالها وهو يمد علي البطاقة ...
لم أشعر في لحظةٍ من حياتي بخيبة الأمل كما شعرت بها اليوم .. لم أتمنى أن تشق الأرض وتبتلعني بقدر ما تمنيت اليوم .. لم استطع أن أفعل شيئاً سوى أن أغادر الغرفة مسرعة .. مقاومةً رغبتي في البكاء ..
حينها .. وحينها فقط أدركت أنه لا يرى فيّ سوى الشاب الذي صنعته تصرفاتي وحركاتي وآمالك .. أنه يراني من هذه الناحية فقط .. أنتِ السبب .. أنتِ السبب .
دموعٌ غزيرة في عيون الأم أيضا .. وهي تتراجع إلى الخلف كأنما تهرب من شبحٍ ما :
- لا .. لا .. لا أصدق أني فعلت كل هذا بكِ .. لا أصدق أني حطمتكِ هكذا .. أنا .. أنا أردت حمايتكِ فعذبتك ؟؟
يا إلهي !!!! حبيبتي .. كنت أود أن أحميكِ ..
صرخت : مم تحميني هاه ؟؟؟ وكيف تكون حمايتي أجيبي .. أتكون بتحولي إلى هجين؟؟
شاهدي نتيجة ما أردتِ نصف فتاة ونصف فتى .. لا هذا جنسي .. ولا هذا .. خليطٌ غريب منهما .. بل مسخ.. أأردتِ الحصول على مسخ؟؟ مسخ ؟؟
صرخت الأم وهي تلوح بذراعيها بذعرٍ شديد :
- كلا .. كلا .. لقد نسيت أنكِ فتاة من هول الصدمة في وفاة والدكِ وأنا غريبة عن هذا الوطن .. أهلي في بلدٍ وآنا في آخر .. وأهل والدكِ لا يعترفون بنا للخلاف بينهم وبين والدكِ على قضية زواجه مني .. ووجدت نفسي أقف وسط البحر في قاربٍ دون مجداف .. لم أجد سواكِ فكنتِ ضحيتي .. عاملتك كفتى .. ربيتك كفتى .. هكذا أردت أن تكوني .. أردت بذلك ألا تضعفي في وجه الحياة .. أنت تكوني صادمة .. قوية .. راسخة .. أنا .. أنا .
وأسدلت ذراعيها في حركة استسلامية .. وعينيها الدامعتان تراقبان دموع ابنتها ولهاثها .. تراقب ارتفاع صدرها ونزوله من فرط الغضب والثورة .. فتحت ذراعيها .. فركضت " فدوى " .. لتلقي بنفسها وسط أحضان والدتها بقوةٍ تمنت فيها أن تذوب في أحضانها .. نظرت الأم إلى شعر أبنتها .. وأزالت القبعة التي ترتديها فتهاوى شعرها الفاحم في حركاتٍ متموجة .. زادت من روعته .. أبعدت الأم ابنتها .. ونظرت إلى عينيها وقالت :
- " فدوى " .. أعتذر .