PDA

View Full Version : مجتمعي في خـــطر حقيـقي (2)


شاهين
20-01-2001, 12:58 AM
هذا الخلل التربوي العميق، من المسؤول عنه؟ هل يكفي أن نقول أن أجهزة الأمن قصرت في لجم هذه العناصر المنحرفة؟ هل يبرر هذا السلوك المنحرف، وجود فئة من الناس انطلقت نساؤهم في الشوارع والأسواق، بمظاهر استثارة رخيصة للغرائز؟ هل نحن فعلا أصبحنا مجتمعا بلا هوية؟ تحولنا إلى شعب مستهلك لكل شيء. من أجهزة الـ(Hi Fi)، والسيارات الفارهة، إلى الملابس وأسلوب الحياة... والمباذل الأخلاقية التي يصدرها لنا الآخرون. كيف تحولنا إلى ما نحن فيه: جرائم قتل من نوع لم نعهده، حالات انتحار عالية، سلوك شهواني منطلق، وغرائز مفلوتة..؟ هل السبب خطط التنمية، وانفتاحنا غير المدروس؟ هل هي (الفضائيات) التي تصب الرذيلة في عيون الأطفال؟
كنت في جدة يوم الخميس الماضي في رحلة عمل. حينما عدت إلى الفندق بعد منتصف الليل، بدأت أقلب محطات التلفزيون، متنقلا بين (الفضائيات). لقد كان شيئا مخيفا، ومفجعا، ومحزنا. قنوات، بعضها يملكها مسلمون، بل ومواطنون، تحشو عقول الناس حشوا بالعهر والفجور. كل شيء في تلك القنوات يدعو للزنا، ويطلق الشهوات من عقالها. العري الكامل، القبل، الأغاني الماجنة، الأجساد المترفة (الجائعة)، التي تتمايل على صوت المغني، وهو يحرضها على الانفلات. كانت دوامة من الجنس والرغبات المحمومة، لا مكان للعقل، ناهيك عن الأخلاق فيها. أين يذهب هؤلاء من الله؟ أين يذهبون من حكم التاريخ الذي لا يرحم؟ إن الأمة مثلما سجلت، وتسجل بأحرف من نور، بناة حضارتها ومجدها، من الرجال والنساء، سوف تلعن كل من يقض بنيانها الحضاري... كل من أحالها إلى مباءة للعهر والفجور والبغاء، ومرتعا للغرائز.. كل من قذف رذائل الغرب ونفاياته الأخلاقية، وفجور الرجل الأبيض، في سمائها.
إننا أمة في خطر. أمة تفقد أخلاقها، وتنسلخ من هويتها وهي تدخل (عصر العولمة). إننا نشهد انهيارا أخلاقيا، كل مؤسسة في المجتمع ترمي مسؤوليتها على الأخرى، أو تدفن رأسها، كما يقول الكاتب المبدع سعد الدوسري، في متابعاته العميقة. إنه سؤال التربية مرة أخرى: من المسؤول؟ يتفق الاجتماعيون والتربويون على أن هناك مؤسسات معينة في كل مجتمع، تقوم بتنشئة الأفراد، وتثقيفهم، وتعليمهم السلوك السوي المقبول اجتماعياً، إضافة إلى لقينهم المعارف والعقائد التي تشكل هويتهم الثقافية والحضارية، وما يقوم عليه دينهم. هذه المؤسسات هي: البيت والمدرسة والمؤسسة الدينية، وهي في مجتمعات المسلمين، الهيئات المعنية بتعليم الناس أمور دينهم. لقد ظل الناس لزمن طويل، يعرفون لهذه المؤسسات دورها في تنشئة أفراد المجتمع، على اختلاف بينهم حول أي من هذه المؤسسات، يقع عليه العبء الأكبر في عملية التنشئة.
ثم جاء عصر وسائل الاتصال الجماهيري، أو وسائل الإعلام، كما هو التعبير السائد. في عصر الاتصال الجماهيري، لم تعد وسائل الإعلام مجرد أداة ترفيه وتسلية، أو (مساهم) صغير في عملية تشكيل الفرد، وصياغته، وتكوينه المعرفي والثقافي، أو ما يسمى التنشئة الاجتماعية. لقد أصبحت الوسائل (لاعبا) رئيسا في العملية، كما نعبر أحيانا.
لقد دخلت وسائل الإعلام كل بيت، وخاطبت الصغير والكبير، واقتحمت كل الميادين، من الفكر الى الترفيه والتسلية، مروراً بالثقافة لقد تضاءل دور مصادر المعلومات وطرق التلقي الأخرى، أمام طوفان الرسائل الإعلامية، التي استخدمت أعظم ما توصل إليه العقل البشري في تقنية الاتصال، واستهدفت بأسلوب جذاب، العقول، والعواطف، بل وحتى الغرائز. في المقابل، استسلم الإنسان لهذا (المربي الإلكتروني)، الذي صار يقوم - إلى حد كبير - بدور الأب، والأم، والمدرسة، وفي أحايين كثيرة، (الشيخ) الذي تؤخذ عنه الفتوى.
إن إدراك دور وسائل الإعلام في عملية التنشئة الاجتماعية، يتضح من خلال معرفة مفهوم الناس لاستخدام تلك الوسائل. إن كثيرا من الناس يتعامل مع وسائل الإعلام على أنها مجرد أداة ترفيه بريئة ليس أكثر، أو مصدر مستقل للأخبار ليس غير. هذه النظرة فيها كثير من السذاجة والتبسيط، إذ ليس هناك ترفيه بريء، ولا أخبار محايدة. إن كل ما نسمعه، أو نراه، أو نقرأه لا يخلو من هدف، أو بالتعبير المتعارف عليه، بين المهتمين بالاتصال الجماهيري، (مشحون بالقيم) Loaded Value . استخدام هذا التعبير يشير إلى أن الرسائل الإعلامية، سواء كانت في شكل خبر، أو فكاهة، أو برنامج علمي، تسعى إلى إزالة قيمة من القيم وتثبيت أخرى محلها، أو ترسيخ شيء قائم، والتصدي لآخر قادم. وهذا بالضبط هو مفهوم التنشئة الاجتماعية في أبسط صورة.
إن تعرض الإنسان منذ طفولته المبكرة إلى أن يموت للرسائل الإعلامية، سواء كانت ترفيهية، أو إخبارية، يجعله (ينشأ) على القيم التي (تشحن) بها تلك الرسائل، من حيث لا يشعر غالبا. إن مشاهدة الفرد مثلا، لتمثيلية تلفزيونية ساخرة، تعرض مواقف مضحكة، لشخص متعدد الزوجات، تجعله يضحك، ويفرط في الضحك، لأن ما يراه فعلا يثير الضحك لطرافته. (القيمة) المشحونة في رسالة إعلامية كهذه، لا يراها ذلك الشخص، وهو يتفرج على ما يعتقد أنه (تسلية بريئة)، تلك القيمة التي تتسلل إلى (اللاشعور)، لتشكل موقفا، أو اتجاها، من تعدد الزوجات. إن الفرد سيكون أقل تجاوبا مع الرسالة الإعلامية التي تقول له بشكل مباشر، (مقالة في صحيفة مثلا): إن تعدد الزوجات أمر مزعج، ومثير للسخرية. لكنه قبل هذا الرأي، حينما تم عرضه عليه من خلال تلك التمثيلية من حيث لا يشعر. الفكرة نفسها تنطبق على (الثوابت الأخلاقية)، التي نرى اعتداء عليها الآن، لأن سيل الرسائل الإعلامية، يقدم التفسخ والانفلات الأخلاقي، على أنه نوع من (المتعة)، و(الحرية الشخصية).